عائشة .. قصة تعايش مع فيروس الأيدز
” أسمي عائشة، سودانية من الجزيرة من محافظة مدينة المناقل. نشأت وسط عائلة بسيطة محافظة ومتكاتفة، لي ثلاثة أشقاء وثمان شقيقات. لم أواصل تعليمي فقد توقفت عن الدراسة عند المرحلة الابتدائية وبالتحديد عند الصف الرابع.
في بلدتي تتزوج الفتاة من أول خاطب يطرق بابها وليس من حقها ان ترفض أو تقبل فقرار الزواج بيد أهلها. كنت في الثالثة عشرة من عمري حينما طرق بابي أول خاطب ووافق أهلى بعد أن تعرفوا على عائلته، فحسب تقاليد عائلتنا يكفى ان يكون الخاطب على خلق وان تتمتع عائلته بسمعة جيدة ليتم الزواج.
كنت طفلة صغيرة أعيش مطمئنة في كنف أسرتي لذلك حينما تزوجت طلبت من زوجي أن نقيم في منزل عائلتي اذ لم أعتد على العيش بعيدا عن أمي فوافق دون تردد. كان زوجي رجل طيب ومتفهم يعمل سائق في أحد المؤسسات ويكبرني بسبعة عشرة عاما وقدعشت معه حياة مستقرة وهانئة ولكنه توفي بعد سنوات قليلة من زواجنا تاركا لي ثلاثة ابناء هم (أبو اليسر) و(محمد) و(يسرية) وكان عمر يسرية آنذاك سبعة شهور.
بعد وفاة زوجي بفترة بسيطة تعرضت لضغوط شديدة من عائلتي والمقربين مني لكي أتزوج خصوصا اني كنت لاازال شابة لم تتعد العشرين من العمر. تقدم لخطبتي صديق زوجي الذي كان يعمل سائقا معه في نفس المؤسسة. قال لي يومها ان كل ما يتمناه هو أن يشاركني حياتي وان يربي معي أولادي فوافقت لأن كلماته أثرت بي وشعرت بأنه سيكون عطوفا رحيما بأولادي فقبلها تقدم لي كثيرون أحدهم أشترط على ان أترك أطفالي لدى والدتي على ان يقوم هو بالتكفل بمصاريفهم كل شهر ولكني رفضت لان الأمومة في نظري ليست صدقة شهرية.
زوجي الثاني كان في الثلاثين من العمر، والداه متوفيان ولكن عائلته أعترضت على أقترانه بي لأنه لم يسبق له الزواج لذلك تزوجنا في هدوء ولم نقم أي حفل للزفاف خصوصا وأنه لم يكن قد مضى على وفاة زوجي الأول سوى عام واحد “.
رحلة عائشة مع فيروس الإيدز
“رحلت بعدها مع زوجي إلى الخرطوم، عشنا حياة جميلة خالية من المشاكل والمنغصات وهناك أنجبت أبنى الرابع الذي أتفقنا أنا وزوجي على ان نسميه (أحمد) تخليدا لذكرى زوجي الراحل. ثم عدت أدراجي الى مسقط رأسي في الجزيرة وبقيت أربي أبنائي هناك إلى جانب زوجي الثاني بعد ان أنجبت منه (عزاز) و(إحسان) و(مهند) وأخيرا (رحمة) آخر العنقود والتي انجبتها بعد اصابتي بمرض الأيدز.
ذات يوم شعرت بألم حاد في الجانب الأيمن من خاصرتي فتوجهت لمستشفى الجزيرة الحكومي في السودان، قابلت جراح متخصص أخبرني ان سبب الالآم وجود حصى في الكلى وبأنني بحاجة لإجراء عملية لإزالة الحصى. بعد اجراء عدة فحوصات تبين اني اعاني من نقص حاد في الدم فنقلوا لي ما يقارب زجاجتين كاملتين من الدماء وطلبوا مني ان أحضر بعد شهر تقريبا لإجراء العملية ولكنى لم أعود لأني شعرت بتحسن في صحتي كما ان الآلآم قد هدأت قليلا.
لم تمض سوى ثمانية أشهرلتعاودني الآم مبرحة كانت اشد من الأولى، ذهبت الى الخرطوم لمقابلة اخصائي امراض باطنية أكد لي بعد عدة تحاليل اني معافاة ولا اعاني من شئ. لم أطمئن للنتيجة فالآلآم لم تبارحنى منذ ذلك الوقت وشعرت بأني اعاني من شئ ما فذهبت لمركز ابن سينا الصحي وهناك قالوا لي اني لا اعاني من حصى في الكلى بل ألتهاب شديد في المرارة هي سبب شعوري بالألم. بعد عدة شهور نقص وزني كثيرا ورافق ذلك أعراض أخرى مثل الاسهال المتواصل والتعب والحمى وعدم القدرة على النوم. مرة أخرى تم تحويلي لمختبر لتحليل دمي وهذه المرة جاءت النتيجة في ظرف مختوم بالشمع الأحمر. أخبر الطبيب زوجي بحقيقة مرضي ولكن زوجي لم يصارحني بالأمر وكل ما قاله لي أنه مرض كمرض الضغط والسكري وبأنه لن يكون بإستطاعتنا ان نمارس علاقتنا الزوجية.
بعدها أخذني زوجي لطبيب آخر فتح الظرف امامي وقال لي بأني مصابة بالإيدز، صعقت ولم أملك حينها سوى ان أبكي من هول الصدمة، انا مصابة بالإيدز؟؟ منذ متى وكيف؟ فرد الطبيب: اسألى نفسك، تذكري ماذا ارتكبتي بحق نفسك لتنقلى اليك هذا المرض القاتل. هكذا ببساطة وصمني الطبيب بالمومس دون ان يعرف اي شئ عني. قلت له أنا امرأة متزوجة وليست لدي أى علاقات غير شرعية خارج اطار الزواج وهنا دخلت أمي وزوجي إلى غرفة الطبيب الذي صب جام غضبه على زوجي متهما اياه بنقل المرض لي. شعرت بالغضب الشديد من زوجي فبدأت أهاجمه وأوبخه وانا ابكي، حاول ان يدافع عن نفسه ولكني لم أكن أرغب في سماعه وكانت أمي تحضنني في هذه الاثناء. منذ ذلك اليوم ساءت علاقتي وعلاقة أهلي بزوجي الذي وجُهت اليه اصابع الاتهام حتى ظهرت نتائج الفحص التي بينت ان زوجي وأولادي خاليين من المرض. أعتذرت من زوجي وأدركت حينها ان المرض قد أنتقل لي عن طريق الدم الذي نقل لي في المستشفى.
تحطمت نفسيتي ودخلت في حالة من العزلة والاكتئاب، ابعدت عني زوجي وأولادي خوفا عليهم من المرض .. كنت سأنهار لولا الممرضة السودانية (نفيسة) التي أخرجتني من الحالة النفسية التي كنت أمر بها، وأكتبي هنا على لساني شكر خاص لهذه المرأة الرائعة التي أعانتني على مواجهة مرضي ومواجهة الناس. فقد عرفتني نفيسة على الكثير من الاخصائيين وعن طريقها بدأت في حضور المحاضرات والندوات وشاركت في توعية الناس والطلبة في الجامعات. كما ظهرت على عدة قنوات اذاعية وتلفزيونية في مقابلات وبرامج خاصة ، واجهت العالم على الرغم من صعوبة ذلك لأغير من نظرة الناس لمرضى الإيدز فهناك من كان ينادى بإحراق وابعاد وعزل مرضى الإيدز دون حتى ان يعرفوا الأسباب، أردت ان أدافع عن نفسي وعن حقوقي كإنسانة.
قد لا تتخيلين ما مررت به جراء ذلك من مواقف صعبة فكل منزل كنت أسكن فيه كان يطردني منه المالك حالما يعرف بإصابتي بفيروس الإيدز. طردوني واضطهدوني وحرق الجيران أثاث منزلي ولم أعرف إلى اين أذهب مع أولادي. كان ابن خالي يعمل مُدرس في مدرسة حكومية فسرب دخولي انا والاولاد إلى داخل المدرسة لننام في أحد الفصول الخاوية لحين تدبير مكان أسكن فيه. ولكن مدير المدرسة أكتشف الأمر ففصل ابن خالي من عمله كما علم أولياء الأمور بالقصة فشنوا حملة ضارية على وعلى اولادي وهددوا بسحب أولادهم من المدرسة ما لم تقم الادارة بطردهم وهذا ما حصل فقد اذعنت الادارة لرغبتهم وفصلت ابنائي.
ذهبت لمقابلة وكيل وزارة التربية والتعليم شخصيا وطلبت منه ان يعيد ابن خالي الى العمل فقد شعرت بالذنب لأني تسببت في قطع رزقه وهو الذي اراد مساعدتي، تفهم وكيل الوزارة الوضع وكلم مدير المدرسة ليعيد ابن خالى الى عمله. ثم ذهبت للقاء مديرة مدرسة ابنائي، شكيت لها حالتي وسألتها عن الذنب الذي أقترفته أو أقترفه أولادي ليستحقوا النبذ وحرمانهم من التعليم، تعاطفت المديرة مع قصتي وأعادت اولادي الى صفوف الدراسة. ولكن الاولاد لم يسلموا من التحقير والاستهزاء من الطلبة الآخرين خصوصا ابني الكبير (أبو اليسر) الذي ترك المدرسة بعد ان وصل للصف السابع لأنه لم يحتمل قسوة الالسن التي كانت تلوك سيرتي بالسوء. اما ابنائي الآخرين فقد تراجع مستواهم الدراسي ورسبوا في الكثير من المواد ما عدا (أحمد) و(عزاز) اللذان حافظا على نفس مستوى تحصيلهما الدراسي.
رحلت إلى ام الدرمان واستقريت هناك، جميع ابنائي الآن في السودان و(رحمة) التحقت حديثا بالروضة. جزء كبير من صمودي سببه وقوف زوجي إلى جانبي فهو من يرافقني في رحلاتي ويوصلني للمحاضرات والندوات التي أحضرها، اما أولادي فيذكرونني بمواعيد جرعات الدواء ويشيرون على حتى بما ألبس وكيف اتعايش مع وضعي.
انا كما رأيتم لا زلت محتفظة بشجاعتي ورباطة جأشي على الرغم من مرور عشر سنوات على اصابتي بالفيروس ولا أتردد في حضور أي محاضرة أو مقابلة أُطلب خلالها ان اواجه الناس وان اتحدث عن تجربتي مع الإيدز. سألتها وماذا تفعلين الآن في القاهرة فأجابت: أصابني ورم حميد في الكبد وانا الآن بحاجة لإجراء عملية لاستئصال هذا الورم، حضرت للقاهرة للإستشارة ولإجراء العملية وان كنت أشك بأن اي طبيب سيقبل بإجراء العملية فدمائي ملوثة بفيروس الايدز”.
عند هذه العبارة توقفت عائشة عن الكلام فقد كانت الدكتورة خديجة المعلى والآخرين بإنتظارها خارج الفندق لاصطحابها لأحد المستشفيات في القاهرة.
الصورة بعدسة حسين المحروس. التقط حسين العديد من الصور لعائشة وحينما أردت ان أنشر هذا المقال كنت أبحث عن صورة تبدو فيها عائشة مبتسمة ولكن الأسى كان يطل من عيني عائشة في جميع الصور.