عن الفراشة واللاطمأنينة وأشياء أخرى
أنا لست متشائم، أنا حزين. فرناندو بيسوا
الرومنطيقيون، الحالمون ومن يعبرون عن احزانهم الداخلية ليسوا متشائمين ولا سوداويين كما يعتقد البعض ولكن ثمة ثلاثة أشياء يمكن أن تستعمر الروح بعد فقدان الاحباب، الحنين المفرط .. الندم واللاطمأنينة. ثلاثة أشياء يمكنها أن تقبع بهدوء مخادع في القلب لسنوات لتستثيرها بين الحين والآخر أغنية .. جملة في كتاب أو شخص عابر يذكرنا بالماضي مثل حجر يُلقى به في بحيرة ساكنة فيضطرب ماءها مخلفاً دوائر تمضي إلى التلاشي شيئاً فشيئاً حتى تعود إلى ما كانت عليه
تقول أليف شافاق ان البشر اما أن يكونوا أنهاراً أو بحيرات وأن الفرق بين الاثنين أنك “إذا ألقيت حجراً في النهر، فإن النهر سيعتبره مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب، لا شئ غير عادي، لا شئ لا يمكن السيطرة عليه. أما إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى”. وأنا لم أعد أميز إن كنت نهراً أو بحيرة ولكن ما أعرفه جيداً أنه لم يعد بإستطاعتي الإفلات من الاحجار
أعتدت لسنوات طويلة ان أترك مسافة بين ما أكتب وبين الخوض بشكل واضح وصريح في مشاعري وحياتي الشخصية. أعتدت أن لا أنشر ما أكتبه في وقت متأخر من الليل وأن أنتظر حتى الصباح حتى أستعيد السيطرة على قلمي ومشاعري فأنقح ما كتبت قبل نشره. أعتدت أن أضفي شيئاً من الغموض والتمويه وأن ألغي العبارات التي يكتنفها الضعف هو ضعف مشاعري غير المحصنة. أعتدت أن لا أعري ما بداخلي بشكل كامل وأن لا أظهر للآخرين ما لا أريد اظهاره لهم. كنت أشعر أنني أمسك بزمام الأمور أو هكذا كان يخيل إلي
أستعدت هذا المقطع لبيسوا من يومياته اللاطمأنينة: “أسحب إلى هناك. إلى أن يحلّ الليل، حياة شبيهة بحياة تلك الشوارع، الممتلئة في النهار بضجيج لا يريد أن يقول شيئاً، والممتلئة في الليل بانعدام ضجيج لا يريد أن يقول أي شئ. أنا في النهار لا شئ وفي الليل أكون أنا. لكن ثمة شئ إضافي .. في هذه الساعات البطيئة والخاوية يصعد من الروح إلى الذهن حزن الكينونة كلها، مرارة أن يكون هذا الاحساس يخصني وشيئاً خارجياً في الآن نفسه ليس تغييره في متناولي”. سألت نفسي: ما جدوى الكتابة أن لم تزح ما يجثم على صدورنا؟ لماذا نتنكر لضعفنا رغم أن كل ما نكتسبه من قوة وصمود واصرار هو من صنع فشلنا وانكساراتنا؟ اليس في ذلك إجحاف لكينونتنا الانسانية؟ لماذا نحرص على أن تكون جروحنا مبهمة وغرورنا واضح للعيان؟
حينما أنشأت هذه المدونة كان الهدف أن أستعيد عافيتي النفسية فهذا ما أفعله في كل مرة أتعرض فيها لصدمة أو ضربة موجعة من الحياة أو حتى خذلان الاشياء التي تمر بدون أن تحدُث. إستعادة القدرة على الوقوف على قدمي مجدداً بعد السقوط أو التعثر يتطلب أن أحقق إنجاز ما يجعلني أستعيد ثقتي في نفسي. هكذا حصدت ثمن خساراتي .. مدونة فتحت لي نافذة صغيرة على العالم ..التحاقي لدراسة الماجستير ونجاحات أخرى صغيرة
الفقدان بحد ذاته موجع والوجع يتضاعف حينما نفقد الطمأنينة. الاشتياقات بالنسبة لي كما هي بالنسبة لفرناندو بيسوا”لدى منها الكثير حتى مما لا يمت إليّ بصِلة بسبب قلق الهروب من الزمن وداء الحياة الملغَّزة. الوجوه التي أعتدت رؤيتها في شوارعي المعتادة، يعتريني الحزن حين لا أراها وهي ليست مني في شئ إن لم تكن رمزاً للحياة بكاملها”. ووالدي كان رمزاً لحياة فقدت نصفها حينما فقدته في حادث سير مروع. كنت بحاجة ماسة حينها لشئ ما ينقذ النصف المتبقي من حياتي، من إلحاح الذكريات وانطفاء البهجة والدفء من بيتنا .. بيتنا الذي تعرض لهزة أخرى قبل وفاته بفترة بسيطة حينما خسر والدي تجارته وشركاته واملاكه بفعل الاهمال والظلم. إنهيار أربعون عام من الكفاح ليست بالأمر الهين لمن ترك مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية ليعمل في مهن بسيطة ليعيل أسرته .. لمن تغرب عن وطنه وطرق جميع الابواب حتى يصل إلى ما وصل إليه. في كل مرة كنت أحاول فيها أن أهون عليه الأمر كان يسبقني بالسؤال: ما هو اسوء شئ يمكن أن يحدث يا أبنتي؟ المال والتجارة يمكن تعويضهما ومن بدأ من الصفر يستطيع أن يبدأ من جديد من صفر آخر ..لا أخشى شئ سوى خسارة حريتي
كان نظره قد بدأ يضعف في السنوات الأخيرة ولكنه كان يرفض ان يوصله أحد أو أن يستعين بسائق متعللاً بكثرة تنقلاته ومشاويره اليومية. أكثر ما يؤلمني حينما أتذكرالحادثة هو أنني لم أره في اليوم الذي سبق يوم وفاته رغم أنني كنت حاضرة في المنزل
لا أعرف لأي غاية أتذكر كل ذلك الآن وأنا أتأمل الدقائق الأولى لشروق الشمس؟ هناك هاجس ما يخبرني أنها قد تكون بداية جديدة بعد تعثر طال أمده. أستعدت تلك المقولة والصورة الموجعة التي لم تبارح تفاصيلها ذاكرتي منذ خمس سنوات حتى بعد أن مسحتها من ذاكرة هاتفي. أربط بينها وبين كلمات والدي رحمه الله وأهمس لنفسي: ليست جميع الخسائر خسائر حقيقية، قد لا ندرك ذلك في نفس الوقت ولكننا سنكتشف ذلك لاحقاً
لماذا الفراشة؟ يسألني بعض الاصدقاء المقربين بشكل متكرر عن سبب إختياري لهذا الاسم حينما بدأت رحلتي التدوينية قبل أن أعلن عن أسمي الحقيقي. سأجيب على هذا السؤال بإقتباس آخر لبيسوا “لأن كل ما يحيط بنا يتحول إلى جزءٍ من ذواتنا”. لم أختر الفراشة ولكنها أختارتني حينما تكررت كرمز في حياتي. ربما هي طبيعتي الديناميكية التي تمل السكون وتحب الحركة والتغيير هو ما أكسبني هذه التسمية. ظهور الفراشة أمامي في أي مكان كان دائماً يرتبط اما بظهور اشخاص أوبرحيلهم من حياتي. في العشرينات من عمري أرسلت رسالة لإعلامية معروفة في أحدى المجلات العربية وتلقيت رداً منشوراً منها على رسالتي عنونته بالفراشة أثنت فيه على أسلوبي في الكتابة وشبهتني فيه بالفراشة. الآن وفي هذه المرحلة من حياتي أصبح السفر واستكشاف العالم هو شغفي الثاني بعد القراءة
قبل أن يحصد تطبيق الانستغرام شهرته الحالية انشأت حساب بأسم “فراشة” ظل مهملاً لأكثر من عشر سنوات لأنني لم أقرر كيف سأستخدمه أو ما هي المادة التي سأنشرها فيه وحينما قررت كنت أؤجل وأسوّف ولكنني قررت اليوم أن أخصصه للكتابة حول تجاربي في السفر، الوجوه العابرة التي ألتقيها والمواقف التي مررت بها وستكون بداية لهذيانات عشوائية جديدة من نوع مختلف تشبهني أكثر من أي وقت مضى