الدكتاتورية في المستقبل

Posted on June 15, 2014 by Suad

مثلما أظن ان البعض قد لايأخذ نظرية البيوسنترزيم للدكتور روبرت لانزا على محمل الجد، أتصور ان البعض لم يؤمن كثيراً بتنبؤات جورج أرويل للعالم حينما طرح روايته “١٩٨٤” في نهاية الاربعينيات. بل أتخيل ان بعضهم أتهمه حينها بالخيال المفرط في التشاؤم

قرأت رواية أرويل عدة مرات وفي كل مرة كنت اسأل نفسي السؤال ذاته: ماذا كان سيكتب جورج آرويل في الجزء الثاني من ١٩٨٤ لو أنه مازال على قيد الحياة وماذا سيكون عنوان روايته الجديدة؟

لاأمتلك قدرات أرويل الاستثنائية في تصور المستقبل ولكن العناوين والصور التي مرت أمامي خلال الاعوام الثلاثة الماضية حفزت مخيلتي على تصور مئات الاحتمالات لما يمكن أن يكون عليه المستقبل. الاجابات كانت سوداوية ومعتمة كالمشاعر التي ساورتني أثناء قراءتي للرواية وتخيلي لوجوه شخصياته المقاربة للواقع وهي تطل من بين الفصول في مشهد سيريالي ساخر ومخيف

لانستطيع انكار حقيقة أننا اليوم لسنا سوى ارقام ضمن قاعدة بيانات ضخمة، وذلك المشهد الذي يصور ان شخص ما يخرج من شاشة التلفاز ليقتحم خصوصيتنا ويجلس معنا في غرفة الطعام او الجلوس لم يعد خيالياً او بعيداً عن الواقع. لم نعد نختلف كثيراً عن اهداف العاب الكمبيوتر المتحركة التي يمكن اتفجيرها بكبسة زر عن طريق جهاز تحكم عن بعد. شريحة صغيرة في جيبك قادرة على تعقبك حتى وان كنت في أبعد بقاع الارض، منطاد يحلق فوق رأسك أو مركبة تتجول على مقربة منك. واذا كنت تستطيع ان تفلت من هذه الاجهزة فقد لايكون بإمكانك الافلات من أدوات ووسائل تكنولوجية غير مرئية أكثر تطوراً وتعقيداً

نحن ضحية نواقصنا الانسانية قبل ان نكون ضحية عملية “غسيل مخ” تمارسها علينا الآلات الإعلامية المسيسة والمأدلجة، نخضع للمركزية التي تفرضها علينا الاجهزة الحكومية او نقبل بها طواعية وننصاع لشروطها في مواقع أخرى. نخلق ابطال وهميون ونثور ثورة وهمية على اعداء وهميون بينما يشن أعداء الحرية الحقيقيون علينا معركة شرسة وذكية تجيد التلاعب بعقولنا والتعامل مع طباعنا الانسانية

أعجبني تشبيه مدون نرويجي لحرص المشاركين في مواقع الإعلام الاجتماعي اليوم على تبوأ موقع الصدارة بإسطورة “سيزيف” والتي تجسد الاستماتة للوصول إلى القمة وكسب اهتمام قصير الامد. قليلون منا من يبذلون الوقت والجهد لنشر عمل ذو قيمة على مواقع الاعلام الاجتماعي ولكن هذا الجهد لايمكث طويلاً علي قمة الهرم اذ سرعان ما يحل مكانه آخر يدفع به الى الاسفل لنعاود الكرة المرة لمحاولة الصعود المرة تلو الأخرى. نموذج جديد لدحرجة الجلمود لأعلى التل يُشجع على سرعة صنع المحتوى وسرعة تقاسمه والاستمتاع بلحظة انتصار وهمية قصيرة سرعان ماتدخل طي النسيان

الشبكات الاجتماعية وفي ظل احتدام التنافس بينها لكسب أكبر عدد من المستخدمين أستغلت بمهارة شهية المستخدمين المفتوحة للتشاركية وقدمت لهم المزيد من الاضافات التقنية والتطبيقات التي تعزز بعض الاوهام الابداعية. لم تعد هذه الشبكات قائمة فقط كما كان في الماضي على سد احتياجات لا تتيحها وسائل الاعلام الرسمية كحرية الرأي والتعبير وتداول الحقائق والمعلومات واعطاء الفرص للإبداع والمبدعين بل أصبح نجاحها يقتات على تغذية روح “الانا” والرغبة في التباهي بالمكانة الاجتماعية أو حصد الشهرة والنجومية السريعة جلها نجومية زائفة لاتستند على موهبة حقيقة وبعضها قائم على نشر ثقافة الازدراء والكراهية

ضغط الاقران ومجاراة السائد دفع غالبية المستخدمين للانسياق خلف الموجة وللتواجد على معظم هذه الشبكات بعد ان أقتنع جلهم بإن التخلي عنها يعني ان يظلوا وحيدين وبعيدين عن موقع الحدث. شريحة كبيرة منا تصارع الوقت لتبقي تفاصيل حياتها موزعة على شبكات الإعلام الاجتماعي، لتحديث بياناتها وصورها الشخصية ودائرة المعارف من الاصدقاء والاقارب وزملاء العمل. كيف تقضي أوقاتها في البيت والعمل واثناء السفر، حتى القناعات الشخصية والقيم الاخلاقية والتوجهات الدينية والسياسية دخلت السباق المحموم في استعراض أقرب للمناظرات التلفزيونية. البقاء كشخصية مجهولة على أي من هذه الشبكات أصبح أمراً شبه مستحيل في ظل مفهوم التشاركية الذي تقوم عليه هذه المنصات وتشابكها بصورتها الحالية والتي لابد ان تكشف عن بعض الخيوط التي تدل على هوية صاحبها

مانغفله اوربما نتناساه ان تسارع الثورة التكنولوجية قد ساهم في تسريع فرض السيطرة والتحكم أكثر مما ساهم في رفع سقف الحريات. لاأقترح هنا ان القائمين على وسائل الاعلام الاجتماعي مجموعة أشرار يتآمرون لتسخير هذه الوسائط كأدوات لسلب الناس حرياتهم ولكني في الوقت ذاته اؤمن مثل الكاتب الانجليزي ألدوس هكسلي ان وفرة ومركزية المعلومات وتوفر عدد من الاجهزة والبرامج التكنولوجية وحتى العقاقير الطبية قد تُستخدم من قبل اي جهة لدوافع سيئة كفرض السيطرة والتقليل من الحريات

أميل أكثر لاستقراء آلدوس هكسلي للحكام الاستبداديون الجدد او النسخة المنقحة من “الاخ الاكبر” على انها أكثر اهتماماً وولعاً بالعلوم والتقنيات الحديثة كأداة للسيطرة على وعي شعوبها وتسييرمجتمعاتها بطريقة سلطوية. اذا كان بإستطاعتك حمل الناس على حب العبودية الخاصة بهم والالتصاق بممتلكاتهم وادواتهم التي تحقق لهم اشباع لنواقص يفتقدونها في حياتهم الشخصية وتسوية اختلافاتهم على المستوى الاجتماعي كما يتم انتاج سلع متناسخة باعداد ضخمة في عمليات الانتاج الشامل فبإمكانك خلق مجتمعات مستقرة وخانعة لسنوات أطول

لاأعرف ان كان العالم سيكون على ماهو عليه في رواية هكسلي “عالم جديد شجاع” ولكني أعلم ان نمط العصر الحالي يُصور لنا ان السعادة هي الانضمام للآخرين وطمس اختلافاتنا واهتماماتنا الفردية. قبل أعوام قليلة لم يشعر أحدنا بالضياع لفقدان هاتفه الخلوي ولابالعزلة عن العالم لعدم قدرته على التواصل مع آخرين علي شبكة الانترنت. العالم الجديد يعيش نصف حياته المتمثل في اشباع غرائزه اليومية التي تبقيه على قيد الحياة على الارض اما النصف الآخر الأكثر أهمية فيتقاسمه مع أغراب في حياة أفتراضية تتسع رقعتها يوماً بعد يوم

Share

Leave a Reply

Name

Email

Website

*