مثلما أظن ان البعض قد لايأخذ نظرية البيوسنترزيم للدكتور روبرت لانزا على محمل الجد، أتصور ان البعض لم يؤمن كثيراً بتنبؤات جورج أرويل للعالم حينما طرح روايته “١٩٨٤” في نهاية الاربعينيات. بل أتخيل ان بعضهم أتهمه حينها بالخيال المفرط في التشاؤم
قرأت رواية أرويل عدة مرات وفي كل مرة كنت اسأل نفسي السؤال ذاته: ماذا كان سيكتب جورج آرويل في الجزء الثاني من ١٩٨٤ لو أنه مازال على قيد الحياة وماذا سيكون عنوان روايته الجديدة؟
لرومنطيقيون، الحالمون ومن يعبرون عن احزانهم الداخلية ليسوا متشائمين ولا سوداويين كما يعتقد البعض ولكن ثمة ثلاثة أشياء يمكن أن تستعمر الروح بعد رحيل أو فقدان الاحباب، الحنين المفرط .. الندم واللاطمأنينة
حينما كنا صغاراً كان آباءنا يسألوننا ماذا نريد ان نكون حينما نكبر وحينما كبرنا تغير السؤال فأصبحنا نُسأل اين نرى انفسنا بعد عشر سنوات من الآن؟
لم يسألنا أحد ماذا نريد ان نكون الآن لا بعد عام او عشرة من الآن، لم يسألنا أحد ماهو مصدر راحتنا وسعادتنا
الاسبوع الماضي قدمت استقالتي من عملي حينما شعرت بأن اللحظة المناسبة قد حانت لإتخاذ قرار ارجأته أكثر من أربع سنوات، نلت خلالها مانلت من تعاسة واكتئاب وامراض نفسية وجسدية بسبب بعض النماذج السيئة التي مررت بها في العمل وشغلي لوظيفة لم تكن تلبي لي طموحي أو تتوافق مع ميولي وقدراتي أوصلتني لحالة يأس مزرية كانت تجتر معها اسوء المشاعر والافكار . لم انتظر ريثما أحصل على فرصة عمل أخرى كما نصحني البعض، لم اتردد كما كنت أفعل في كل مرة، شيئاً ما كان يدفعني لإتخاذ هذه الخطوة، شيئاً ما كان يقول لي ان السباحة ضد التيار ليس عملاً بطولياً علي الدوام وان الاستسلام لوضع خاطئ ليس قناعة بل خنوع، شيئاً ما جعلني اصم اذناي عن كل الاصوات التي كانت تحاول ان تثنيني عن قراري وتصفه بالتهور الغير مدروس .. ربما كان حدسي .. احساسي .. صوت التجارب السابقة التي مررت بها
الحياة ليست ثابتة .. لاشئ فيها كذلك وحينما تتزعزع الارض تحت اقدامنا فهذه اشارة إلى ان الوقت قد حان للتخلى عن اماكننا واستكشاف ملاذ آخر لآمالنا واحلامنا. الأمان والاستقرار ليسا نعمة بالضرورة فحينما نركن اليهما نهمل احلامنا ونقتات علي الروتين المعتاد، يموت بداخلنا شئ مهم هو الاحساس بمعنى وقيمة الاشياء، نتوقف عن التأمل والاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة ويصبح اليوم مثله مثل الامس مثل الغد. قليلون منا من يفكرون في التغيير حينما يقفون على ارض صلبة لايواجهون فيها العواصف
هذا ماتعلمته من “ج” زميل عمل في أول وظيفة التحقت بها بعد التخرج، “ج” كان يعتنق الديانة الهندوسية وعدا قلة من الموظفين كنت من بينهم كان الغالبية يتجنبون مخالطته وتناول الطعام معه بل حتى مصافحته. ولكن “ج” بالنسبة لي كان أكثر من ديانة، كنت استمتع بقصصه التي لاتخلو جعبته منها ابداً وكنت اتساءل بيني وبين نفسي من اين يأتي بكل هذه الحكايات التي لاتنتهي. “ج” لم يكن بارعاً فقط في سرد القصص بل في قراءة افكار من حوله والوصول إلى اعماقهم ففي آخر يوم عمل لي معه وبينما كنت أجمع حاجياتي استعداداً لترك مكتبي بعد ان قدمت استقالتي للالتحاق بعمل آخر شعر “ج” بمخاوفي وحزني الذي لم أعلن عنه لوداع المكان الذي شهد انتصاراتي وهزائمي .. قلت له : يقولون ان الله عادل ولكنني لاأري العدالة التي يتحدثون عنها فالنصرة في عصرنا هذا من نصيب المنافقين والانتهازيين، فقال لي اذاً اسمعي هذه القصة: كان هناك ملك تربطه صداقة حميمة بوزيره فكان يصطحبه معه إلى اي مكان يذهب إليه حتى ذلك اليوم الذي كان فيه الملك يحاول قطع جذع شجرة فقطع اصبعه فلم يكن من الوزير الا ان قال ” الحمدلله ” فاستاء الملك كثيراً من تعليق الوزير وامر جنوده بإيداعه السجن فنطق الوزير مجدداً ” الحمدلله “. في اليوم التالي خرج الملك للصيد فأبتعد عن حدود مملكته فوقع اسيراً لأحد القبائل التي احتجزته لكي تقدمه قرباناً لآلهتهم الا ان اصبعه المقطوع حال دون تنفيذ ذلك فقد كان قانون القبيلة يمنع تقديم القرابين المصابة بالامراض او التشوهات فأطلقوا سراحه وعاد لمملكته. فكر الملك بعد عودته في اصبعه المقطوع الذي كان سبب نجاته وأمر بالافراج عن الوزير وقال له: لقد كنت محقاً حينما حمدت الله على ما اصابني من ضر ولكني لم أتوقع ان تبقى علي اصرارك حتى حينما اودعتك السجن فقال الوزير: لو لم أكن في السجن ذلك اليوم لاصطحبتني معك ولكنت القربان بدلاً منك. ومغزى القصة ان بعض المحن وان بدا ظاهرها سيئاً قد تتحول لاسباب للخير والعكس صحيح
معظمنا وفي غمرة تفكيره في المستقبل وكيفية عيشه وتأمينه ينسى ان يعيش يومه ويستمتع بحاضره. حينما قلت للبعض انني تركت عملي لأني لم أكن اشعر بالسعادة والرضا كان الرد: ومن منا سعيد في عمله، في النهاية عملك هو مايؤمن لك رزقك وحياتك وليس مطلوباً منك ان تحبيه بل ان تؤديه كما يفعل معظم الناس
لن أنكر انني فكرت كثيراً في كلامهم ولكن السلام الداخلي الذي أعيشه مع نفسي والمحيطين بي منذ ان تركت عملي لم يترك لي مجال للشك بصحة قراري
طوال الايام التي مضت كنت ابحث عن اجابة لهذا السؤال .. لماذا نعمل؟ وايهما أهم المال ام السعادة والرضا الوظيفي؟ واذا لم نستطع الموازنة بين الاثنين وكان علينا ان نختار فلمن سترجح الكفة؟ لم أتوصل لإجابة تصلح للجميع لأن حساب الارباح والخسائر يختلف من شخص لآخر تبعاً لاولوياته وظروف حياته وانا أخترت ان أربح حريتي وراحتى النفسية. اجريت العديد من الاختبارات على الانترنت، قرأت الكثير من القصص والتجارب وكان أفضلها هذا الموقع الذي يستعرض فيه صاحبه تجربته الشخصية ويشارك زوار الموقع من خلال فيديو قام بإعداده المعايير التي يمكن ان نستند عليها لإتخاذ قرار ترك العمل والتي تعد في وجهة نظرى من أكثر المعايير واقعية واتزاناً
استطيع ان اقول الآن انني لست نادمة اطلاقاً على قراري بل ان لدي شعور أقرب إلى اليقين ان الغيوم السوداء ستنقشع قريباً من سماءي وسيبزغ فجر يوم جديد سيكون أجمل بكثير من الامس
عادة ما تعلق الاماكن بذاكرتي بعد عودتي من اي رحلة للخارج ولكن زيارتي الاخيرة لبيروت كانت الاستثناء فأكثر مازال عالقاً في ذهني حتى اليوم هو الوجوه والاسماء التي تقاسمت معها العديد من اللحظات الجميلة. التآلف السريع الذي ربط بيني وبين لينا .. تسكعي حتى منتصف الليل في شوارع بيروت مع غيداء وشادن وميس .. مارسين الذي اطلق عليه الجميع الرجل الابيض لأنه لانه لايرتدي الا الملابس البيضاء.. حديث سريع مع منال في باص اقلنا لوحدنا من مطعم الصياد لفندق روتانا حازمية .. عقاب المتأخرين عن حضور الاجتماع (غناء، رقص او تمارين رياضية) والذي يبدو ان ليال قد نالت النصيب الاكبر منه .. حيدر الذي لاأعرفه الا بأسم حمزوز يتجول بين المدونين معلقاً على ظهره علم العراق .. مناوشاتي الدائمة مع عمر التي تحولت في الايام الأخيرة لصداقة أعتز بها .. الابتسامة التي لاتفارق وجه سامي بن غريبة .. بكاء جيليان تأثراً في اليوم الأخير من الاجتماع .. تعليقات أميرة الساخرة .. عرض سليم عمامو – أكثر شخصية مرحة التقيتها في الاجتماع – عن فلسفة الانترنت ورقصه على الموسيقى المصاحبة لشرائح العرض
ستة ايام تقريباً انقضت في لمح البصر عدت منها محملة بالذكريات وبواحد وعشرين كتاباً من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب إضافة لكتاب هلال شومان “مارواه النوم” الذي أهداني اياه بعد ان التقيته صدفة وهانيبال في المعرض وأخذت بمشورتهما في بعض الروايات والكتب
ستة ايام اغدق علينا منظموا الملتقى، مؤسسة هينرش بل وأصوات عالمية أون لاين بدعم من هايفوس و أوبن سوسايتي انستيوت بما لذ وطاب من المأكولات اللبنانية اللذيذة التي ضافت لوزني كيلوغرامات اخرى سيصعب على التخلص منها الآن. في الاستمارة التي اعطيت لنا لندلى بآراءنا حول الملتقى والتنظيم كتبت “تمنيت لو تم الاستغناء عن بعض دعوات العشاء وتم استبدالها برحلات سياحية يستطيع المدونون من خلالها التعرف على لبنان وعلى بعضهم البعض بشكل افضل” فقد كان العدد كبيراً (٨٠ مدوناً تقريباً) وكان الملتقى مقسماً إلى ورش تدريبية وحلقات نقاشية متوازية يختار المشارك منها مايحتاجه
ليال اتفقت معي في الرأي فقد سألتني في احد فترات الاستراحة ما إذا كنت قد زرت بيت الدين وبعلبك ومدينة صور وقصر موسى ومحمية الباروك وفاريا من قبل فرفعت حاجباي تعجباً فبعض الاماكن كنت اسمع عنها للمرة الأولى رغم انني زرت لبنان سابقا ومكثت فيها مايقارب الثلاثة اسابيع. ويبدو ان ليال قد التقطت شعوري بالحرج فأضافت” لستِ الملامة ولكنها وزارة السياحة عندنا التي تروج للحياة الليليلة وكأنها السياحة الوحيدة المتوفرة في لبنان!!” فكرت كثيرا في اللافتات المنتشرة في شوارع بيروت .. اعلانات القنوات التلفزيونية اللبنانية .. أظن ان ليال كانت محقة في ملاحظتها
رب صدفة خير من ألف ميعاد
اثناء انتظاري في مطار بيروت وقبل الوصول لمنطقة الجوازات استرعي انتباهي حديث كان يدور بين رجل وامرأة عرفت من لهجتهما انهما من البحرين. كان الرجل قلقاً لأن صلاحية جواز سفره ستنتهي بعد اربعة اشهر اذ يبدو ان احدهم قد اخبره في مطار البحرين بأن مطار بيروت قد يمنعونه من الدخول اذا لم يكن جواز سفره صالحاً علي الاقل لمدة ستة أشهر. أخرجت جواز سفري لأتفقد تاريخ الصلاحية فأنتقل القلق بدوره لي فصلاحيته تنتهي ايضاً في فترة مقاربة. ألتفّت للشخص لأستعلم منه عن الموضوع فبدا لي وجهه مألوفاً، لم أتعرف عليه منذ البداية ولكني كنت متيقنة من شخصية المرأة التي كان يتحدث إليها فقد كانت الكاتبة البحرينية خولة مطر. نسيت قلقي في لحظات وتحول الحديث لمنحىً آخر، أخبرتها انني سمعت عنها الكثير وسألتني عن سبب زيارتي لبيروت فقلت لها بإنني مدونة وبأنني هنا لحضور اجتماع للمدونين العرب فطلبت عنوان مدونتي حتى تقرأها لاحقاً فهي كما اخبرتني مهتمة بمتابعة المدونات البحرينية
تنفسنا جميعاً الصعداء حينما علمنا بإن الفترة المسموح بها هي مابين ثلاثة لستة أشهر حسب البلد وتم ختم جوازات سفرنا لدخول العاصمة بيروت
بحبك يالبنان ياوطني
أغلب اللبنانيين يتغنون بحبهم لوطنهم رغم ان الاحداث السياسية في لبنان لاتدعم كثيراً هذا القول ولكنني استطيع القول ان هذه القاعدة لاتنطبق على الجميع فقد التقيت بالكثير من الشخصيات اللبنانية البسيطة التي عبرت عن هذا الحب بشكل صادق ومؤثر أحدهم هو “ميشيل” صاحب محل صغير للتحف وقطع الانتيك التقيت به اثناء تجوالي انا وميس وشادن وغيداء في منطقة الحمراء مساءً .. ميشيل لم يكن يعرف من نحن ولابأنني أو غيري يمكن ان نكتب عنه في مدوناتنا. حينما علم ان غيداء من اليمن سألها عن خنجر بيع له على انه خنجر من اليمن وبعدها انطلقنا في الحديث وانطلق هو في حديثه عن لبنان. سألني عن البحرين وعن بعض الاحداث التي يسمع عنها من خلال الاخبار واخبرته بصدق عن حياتنا دون رتوش فكثيراً من اللبنانيين يظنون ان الخليجيين نائمين على براميل من النفط والجهل. تأثرت كثيراً بعبارته حينما قال لي: “يابنتي ادعي لوطنك في صلاتك مثل ما بتدعي لوالدينك، ادعي ربك يحفظ لك هالبلد، الواحد منا مابيسوا شي من غير وطن”. لاأعرف بماذا فكرت حينها .. ربما في المحرومين من اوطانهم .. من اباءهم او امهاتهم .. وكادت ان تفر دمعة من عيني
ضريح الحريري ومخاوف التقديس
رغم ان شادن كانت قد سبقتنا لزيارة ضريح الرئيس الشهيد الحريري الا انها تطوعت لأخذنا إلي هناك، ساحة الشهداء حيث يرقد الحريري ورفاقه الذين سقطوا معه في جريمة التفجير بالقرب من مسجد محمد الأمين. حينما وصلنا كانت تقف الكثير من سيارات الشرطة على مدخل الضريح ومرت دقائق قبل ان نشهد خروج الشيخ سعد الحريري الذي يبدو انه كان يزور قبر والده. أنتظرنا حتى خروج الموكب لنتمكن من الدخول، صور الحريري كانت في كل مكان وزهور الجاردينيا البيضاء تغطى قبره وصوت ترتيل القرآن يأخذك إلي حيث لايرغب اي منا في التفكير .. الموت .. الموت الذي لايمنحك أحياناً حتى فرصة وداع من تحب. كنت اتوقع ان الشهيد رفيق الحريري شخصية محبوبة من قبل جميع اللبنانيين ولكنني فوجئت بردات الفعل المختلفة من قبل اللبنانيين حينما اخبرتهم عن زيارتنا للضريح ولعل أكثر ماصدمني منها هو تخوف بعض اللبنانيين من ان يصبح ضريح الحريري مزاراً كمزارات أهل البيت
البنية التحتية للبنان
لفت انتباهي ومنذ أول يوم مكثنا فيه في الفندق انقطاع الكهرباء المتكرر الذي قد يصل إلى خمس او ست مرات في اليوم الواحد ويستمر لمدة ثوان معدودة وهذا طبعاً بفضل وجود مولد كهربائي في الفندق ولكن يبدو ان الحال مختلف في مساكن اللبنانيين فالكهرباء تشكل الازمة الأكبر في حياتهم اليومية. لفت انتباهي ايضاً ضعف شبكة الانترنت فرغم ان بعض المدونين قد دفعوا للفندق لقاء توفير خدمة الانترنت الا ان ادارة الفندق لم تستطع ان تضمن لهم توفير الخدمة التي كانت تضاهي في سرعتها سرعة السلحفاة. اما الشوارع والطرقات في بيروت فقد كانت تغرق في مياه الامطار بعد ساعات قليلة من هطول الامطار المتواصلة بحيث يصعب معها الحركة والتنقل سواء بالسيارة او حتى سيراً على الاقدام