أوراق الورد
“جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في الللاء السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة. ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب.
إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك”.
(مي زيادة)
من أجمل رسائل الحب التي قرأتها هي رسائل الحب التي تبادلها الاديبان جبران خليل جبران ومي زيادة، الا ان أعجابي بهذه الرسائل تأثر بعد قراءتي ”رسائل الأحزان” و”المساكين” للأديب مصطفى صادق الرافعي. وتعاطفي مع الرافعي لم يكن بسبب اصابته بالصمم في سن مبكر ولا بسبب هيامه اليائس بالأديبة اللبنانية مي زيادة التي لم تبادله الحب فكتب فيها أجمل ما كتب من رسائل أدبية مرهفة في (أوراق الورد) و(السحاب الأحمر).
تعاطفي مع الرافعي بدأ بعد قراءتي لإبداعات هذا الاديب الكبير الذي لم يحصد ما يستحق من مكانة وشهرة على الرغم من تفوقه لغويا على الكثير من شعراء جيله كما ذكرت مصادر متعددة هذا عدا كونه أول من نادى بتحرير الشعر العربي من قيود الوزن والقافية لينطلق نوع جديد من الشعر هو النثر الشعري.
وقبل ان أسترسل وأسهب في مديح الرافعي أعترف لكم بأن الود بيني وبين الشعراء العرب الأوائل ظل مفقودا طوال السنوات التي مضت، فالمناهج الدراسية التي ألزمتنا بحفظ القصائد المقفاة والمعلقات وترديدها كالببغاوات أفقدتني شهيتي لقراءة هذه القصائد وولدّت لدي شعور بالفتور والملل تجاه اي شاعر ينتمي إلى تلك العصور، الا انني استعدت شغفي بالأدب العربي القديم مؤخرا بعد عثوري على بعض المواقع التي توفر اشهر المؤلفات العربية كموقع “الوراق” الذي يعد واحدا من أفضل مواقع المكتبات الالكترونية.
تعرفت على الرافعي أول مرة من خلال كتابه “المساكين” الذي يتناول موضوع الفقر والتعاطف الإنساني والذي تم مقارنته بمسرحية البوساء للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو. الا ان أفضل مؤلفاته على الاطلاق هي كتبه النثرية حول فلسفة الحب والجمال والقطيعة والاحزان في كتبه “حديث القمر”، “رسائل الاحزان” و “السحاب الاحمر” و“أوراق الورد” التي يناجي فيها محبوبته في خلوته من خلال رسائل لم يرسلها اليها بل جمعها في هذا الكتاب بالاضافة الى رسائلها اليه وأرسلها لها بعد سبعة أعوام من تاريخ الفراق.
في قصائد الرافعي ورسائله عذوبة وتصوف وأزليه وترّفع بالحب تعيد الي ذهن القارئ صورة الحب الافلاطوني، وهذه بعض المقتطفات من كتاباته:
”من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئا
ومن اراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئا
ومن أراده للتسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئا
ومن أراده نموذجا من الرسائل يحتذيه لم يجد شيئا
ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضا والغضب ويتحدث بأمانيه عنه وإليه في الحب والسلوان وجد كل شئ.”.
“كل الأماني التي لا تتحقق ، هي وجود مخنوق في القلب”.
“لا يصحّ الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا.. ومن هذه الناحية كان البغضُ بين الحبيبين – حين يقع – أعنف ما في الخصومة، إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصيمين في عالم النفس متحابان، تباغضا”.
“الدموع أوهى من أن تهدم شيئاً ، ولكنها تهدم صاحبها !”.
“تقولين يا حبيبتي : أي شيء عندك هو جديد في؟ ولماذا لا تراني رؤيتك غيري؟ وكيف بعدت في نظرك المسافة بين وجه امرأة ووجه امرأة أخرى؟ وهل في وجوه النساء طريق متشعبة تذهب برجل يمينا وتلوي بغيره شمالا ، وتتوافى إلى غاية وتتفرق عن غاية ؟ ثم ما الذي جعلني عندك لغزا لا تفسير له ، وجعل النساء من دوني واضحات مفسرات كألفاظ الحياة الجارية في العادة والواقع المبذولة بمعانيها لمداولة الأخذ والعطاء، على حين تزعم أني كالعبارة العقلية التي يضرب فيها الظن على وجوه شتى ، وأني كما تقول كلمة بسرها؟”.