Archive for the ‘قراءات’ Category

تقاطعات فريدا

Posted on 2020 03, 11 by Suad

أنا أرسم لأني وحيدة في كثير من الأحيان، لأني أنا الموضوع الذي أعرفه أكثر من المواضيع كلها”

أحياناً يكون الإحجام عن طلب المساعدة في أشد أوقات الألم هو نداء الاستغاثة بحد ذاته. أغلبنا يمثل “حتى يصبح القناع هو الوجه”ويسخر حتى تصبح سخريته شكلاً من أشكال التحايل على الجراح أكثر من كونها محاولة للخداع فلا يستطيع الآخرون أن يفرقوا بين الوجه والقناع وبين الخداع والألم

الأدب والفن أيضاً وجهان لكنهما حقيقيان جداً وقد يكونا نوعاً من أنواع الحراك والنضال ضد الطغيان والظلم أو ضد معاناة الأنسان مع نفسه. معظمنا يتأثر ويتفاعل مع العذاب النفسي أكثر من العذاب الجسدي، ربما لأن قلة منا يختبرون ألم الجسد بشكل منتظم ولكننا جميعاً وبدون استثناء مبتلون بشكل أو بآخر بعذاب النفس ومعاناتها. بعضنا يعاني من ما يمتلك وبعضنا من ما لا يمتلك أو حُرم منه بعد امتلاكه وبعضنا الآخر لإكتشافه أن ما ظن أنه قد أمتلكه لم يمتلكه في يوم من الأيام. لا أحد يستطيع أن يجزم أيهما أصعب: العيش مع الحرمان أوالعيش مع آمال وتوقعات تنتهي بالخذلان

حتى في اللحظات التي يُقدر لنا فيها أن نتعثر ببعض الصدف الرائعة نكون مخيرين بين ان نشعر بالخسارة أن لم نسلم أنفسنا للتجربة أو بالشقاء أن أنحنينا وأستسلمنا لها. معضلة المفاضلة بين الزخم والديمومة ليست بالسهولة التي يصورها البعض فالحصول أو التخلي عن اللحظات والاشياء والأشخاص الذين لا يضاهون في حياتنا له ثمن باهظ ليس بمقدور الجميع أن يتحمله

لطالما تجاهلت مقدمات كتب السير الذاتية التي يسهب المؤلف أو المترجم فيها في استعراض قدرته علي سبر أغوار الشخصية التي يقدمها، أراها أقرب لتقصي وجمع الحقائق من اكتشاف يحق له أن يتباهى به. الاستثناء الوحيد كان مقدمة سيرة حياة الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو لهايدن هيريرا وعن لقيتها النفيسة التي عثرت عليها بالمصادفة بين الكتب المصفوفة في مخزن كتب “شكسبير أند كو”في باريس. ما كان لي وأنا المهووسة بالرسائل والصدف أن أتجاهل كل هذه الاشارات الواضحة، فشغفي بالقراءة وبمكتبة شكسبير وبإكتشاف الجوانب المظلمة والانسانية جعلني أتوقف مراراً بعد ذلك لأعيد قراءة بعض العبارات والرسائل وأطابق تفاصيلها بتفاصيل صور ولوحات فريدا. وكلما أوغلت في القراءة كنت أجد المزيد من التقاطعات بين أفكار ومعاناة فريدا الداخلية وبين أفكارنا ومعاناتنا الداخلية كبشر حتى وان كانت لا تتقاطع معها في الوقائع والاحداث

فريدا البغيضة واللاذعة التي كانت تتمنى أن تكون مجرد شئ في منتهى الصغر حتى يستطيع صديقها اليخاندرو ان يحملها دائماً في جيبه كانت أول خيباتها حينما أدركت انه حتى وأن أغرت الاشياء الصغيرة والسهلة الجيوب لتستحوذ على مكان لها فيها فهذا لا يعد ضمانة لبقائها هناك إلى الأبد

حينما قررت فريدا أن تتزوج من الرسام دييغو ريفيرا، ذُهل بعض اصدقائها لأنها ستهجر اليخاندرو من أجل عجوز قبيح المظهر ولكن دييغو كان الفنان العبقري الذى رعى موهبتها وقدم لها أكثر من باقات الورود والنكات التي كان يهديها لها اليخاندرو. ما جمعهما كان مزيج متشابه من السخرية وروح الفكاهة السوداء. كلاهما كان يرفض المبادئ الاخلاقية البرجوازية ويفضل صحبة الأعداء الاذكياء على الاصدقاء البلهاء. إبان سنوات دراستها في الاعدادية كانت فريدا مفتونة به إلى الحد الذي جعلها ترد ذات مرة على صديقة لها وصفته بالعجوز القذر ذو الكرش والمظهر المروع أنه “لطيف ورقيق وحكيم جداً. سوف أحممه وأنظفه”. كانت خيبة فريدا الثانية حينما أكتشفت أنه لا شئ يمكن أن ينظف الانسان من ادران الانانية والنزوات والخيانة

كان الجميع يتوقع ان تتحدث فريدا بشكل معلن عن معاناتها مع رجل غارق في ذاته ولكنها كانت تراها تسوية طبيعية مثل “ضفتي نهر لا تتعذبان أو تشكيان لأنهما سمحتا للماء بالمرور والتدفق أو كتربة لا تكابد الجفاف لان المطر لم يهطل ليسقيها”. في مقالة لها عنونتها ب “بورتريه لدييغو” كتبت فريدا: لن أتحدث عن دييغو باعتباره زوجي لان الامر سيكون مثير للضحك، دييغو لم ولن يكون زوج أية واحدة من النساء. ولن أتحدث عنه بوصفه حبيبي، لأنه بالنسبة لي تسامى عن عالم الجنس، وإذا ماتسنى لي أن أتكلم عنه بوصفه أبناً فأني لن أفعل شيئاً سوى وصف أو رسم عواطفي أنا، تقريباً صورتي الذاتية، لا صورة دييغو الذاتية 

قصة فريدا لا تشبه فساتينها المزركشة أو اكسسواراتها الملونة لكن الازياء بالنسبة لها كانت قناع لصرف انتباهها وانتباه الرائي عن سوداوية وجعها الباطني. اليس هذا مانفعله كل يوم ونحن نحاول أن نحمّل ملابسنا هوية ربما لاتروق للبعض أو تجعلهم يخشون الاقتراب منا؟ ما الذي يجعل محاربة شيوعية ثورية تمقت الرأسمالية والبرجوازية تعرض ثياب التيهوانا للباريسيات المترفات على غلاف مجلة ازياء مثل فوغ تصورها للازياء لا يخرج عن نطاق الفخامة الباذخة؟

الرسم كان جزء من معركة فريدا من أجل الحياة ولتحقيق ما عجزت عن تحقيقه في الواقع بعد ان كُسر عمودها الفقري في حادث سير وهي في ربيعها الثامن عشر ورغم ذلك لم يكن في أعمالها ما يشير إلى الإشفاق على الذات. كانت المرأة التي قال عنها دييغو مرة: لو أني فارقت الحياة من دون أن أعرفها كنت سأموت من دون أن أعرف المرأة الحقيقية

Share

أحلام مستغانمي .. ثقافة الجمل الجميلة

Posted on 2009 09, 01 by Suad

Nessyanahlam

قلما أحب كاتب ما وأحب كتاباته في آن واحد ولكن هناك اسباب كثيرة تجعلني أحب شخصية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وأظن أنني سأحبها أكثر في الايام القادمة ولاتسألوني عن الاسباب

أحلام اطلقت في يوليو الماضي كتابها الجديد “نسيان كوم” وقد بدا الاسم غريبا بالنسبة لي فظننت في البداية ان عنوان الكتاب هو نيسان كوم نسبة لشهر نيسان ولكنني أدركت فيما بعد ان  العنوان هو نسيان كوم  لسببين الاول هو ان موضوع الكتاب عن النسيان وكلمة “كوم” كانت اضافة ذكية من الكاتبة لتصبح الكلمة النهائية نسيانكم وكأنها تتحدث بلسان جميع النساء اللاتي ينشدن  نسيان قصص الحب الموجعة، اما السبب الآخر فهو ان الكاتبة قد دشنت موقعا الكترونيا بنفس الاسم يتضمن ميثاق شرف انثوي اشارت اليه في نهاية كتابها وطلبت من من قارئاتها ان يوقعن عليه وان يتعهدن بالتالي

دخول الحب وهن على ثقة تامة بأنه ما من وجود لحب ابدي
إكتساب حصانة الصدمة وتوقع كل شئ من الحبيب
عدم البكاء بسبب رجل، فلا رجل يستحق دموعها ومن يستحقها لم يكن ليرضى ان يبكيها
ان تحب كما لم تحب امرأة وان تكون جاهزة للنسيان كما ينسى الرجال

ميثاق شرف أشك ان اي امرأة قادرة على الالتزام ببند من بنوده فأحلام نفسها تعترف ان المشكل الحقيقي سيكون في صعوبة حكم ملايين النساء الحمقاوات اللائي لايمتثلن للتعليمات، ولايعرفن ماذا يردن بالضبط من الحياة.  هن منخرطات في حزب النسيان وعينهنّ على الرجال.  يقلن لا ويضمرن نعم.  ومع ذلك فإن الكاتبة وحسب ما ذكرت في كتابها تطمح لجمع أربعين ألف توقيع نسائي بعدد نسخ الطبعة الاولى من الكتاب وتستدرك .. “الا اذا قام الرجال بشراء نصف الكمية من النسخ عن فضول او لمصادرة حقنا في النسيان” .. ولم لا؟ فعلى غلاف الكتاب كُتب باللون الاحمر ووسط دائرة حمراء “يحظر بيعه للرجال” عبارة كفيلة بفتح شهية وفضول اي رجل لإكتشاف فصول الغباء في حياة النساء

تقول أحلام في مقابلة أجرتها معها وكالة فرانس برس ان فكرة الكتاب انطلقت من صديقة لها تعيش قصة فراق موجعة، كان الرجل الذي تحبه يتصل بها يوميا عند التاسعة صباحا وبأنها ظلت حتى بعد ان افترقا تستيقظ يوميا في الوقت نفسه.  وحتى تخرج هذا الشهريار من رأسها راحت أحلام تتصل بها يوميا في الساعة نفسها لتروي لها كل يوم قصة كما كانت تفعل شهرزاد مع فارق انها ترويها لها نهارا

الكتاب ليس رواية ولايمكن تصنيفه ايضا ضمن كتب المساعدة الذاتية التي تلقى رواجاً كبيراً في الغرب لافتقاره للتحليل وللمعايير العلمية الاساسية وأحلام لاتنكر ذلك وتصنف كتابها ضمن الكتب التي تتضمن الكثير من النصائح الطريفة للمرأة وبأنها قد كتبت هذا الكتاب وهي تضحك .. هل هناك اعتراف أجمل من هذا؟

الكتاب يتضمن ايضا عشر قصص ادرجتها احلام في فصل أخير تحت عنوان “من قصص النساء الغبيّات” كان أجملها القصة العاشرة والاخيرة، كما أرفقت بالكتاب اسطوانة مدمجة جمعت فيها بعض قصائدها بصوت الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة تحت عنوان “ايها النسيان .. هبني قبلتك”.  وبغض النظر عن رأيي الشخصي في صوت الفنانة جاهدة وهبة الا انني ارى ان الفكرة في حد ذاتها مبتكرة وذكية وأتوقع ان يقوم كتّاب عرب آخرون بتقليدها فيما بعد

أعرف ان البعض – أكثر هؤلاء “البعض” من الرجال – لايستسيغون ادب ولاكتابات أحلام مستغانمي ولكنني وكما صرحت من قبل ودون ادنى شعور بالخجل او بالانتقاص من وزن ثقافتي او ثقافة من اقرأ لهم ان الجمل العميقة واللافتة بين السطور كثيراً ما تجتذبني لأي عمل ادبي اقرأه وبأنها قد تكون  خلاصة العمل كله، وهاهي أحلام تؤكد ذلك من خلال وصفها لثقافتها بثقافة الجمل الجميلة وبأنها قد تصنع كتابا من جملة قد تأخذها من سائق تاكسي لان هذه هي فلسفة الحياة بالنسبة لها، ولانها فلسفة الحياة ايضا بالنسبة لي فقد أخترت لكم بعض هذه الجمل الجميلة من كتابها

أشياء تطاردها
وأخرى تُمسك بتلابيب ذاكرتك
أشياء تُلقي عليك السلام
وأخرى تُدير لك ظهرها
أشياء تودّ لو قتلتها
لكنّك كلّما صادفتها
أردتك قتيلً

الكل يخفي خلف قناعه جرحاً ما، خيبة ما، طعنة ما
ينتظر أن يطمئن إليك ليرفع قناعه و يعترف
ما استطعت ان انسى

أول قرار: إغلاقك كل قاعات الترانزيت في حياتك

الالم يستيقظ متأخراً، انه يعيش طويلا بعد الذكريات الجميلة

النساء دائما ماتقلق على الاشياء التي ينساها الرجال والرجال دائما ما يقلقون على الاشياء التي تتذكرها النساء

امام هذه البذلات المعلقة التي هي في متناول جيبي وماعادت في متناول قلبي بكيت، فقد تأكد لي حينها موته.  الميّت هو الذي ما عاد بإمكانك ان تعطيه شيئا، لكن مازال بإمكانه ان يعطيك ماشاء من الألم

عندما تلجأ إلى حب جديد لتنسى حباً كبيراً، توقع الا تجد حباً على مقاسك.  سيكون موجعاً كحذاء جديد.  تريده لأنه أنيق وربما ثمين .  لأنه يتماشى مع بذلتك، لكنه لايتماشى مع قلبك ولن تعرف كيف تمشي به.  ستقنع نفسك لمدة قصيرة او طويلة انك ان جاهدت قليلا بإمكانك انتعاله.  ستدعي ان الجرح الذي يتركه على قدمك هو جرح سطحي يمكن معالجته بضمادة لاصقة.  كل هذا صحيح لكنك غالبا ما لا تستطيع ان تمشي بهذا الحذاء مسافات طويلة.  قدمك لاتريده، لقد أخذت على حذاء قديم مهترئ .. مشت به سنوات

الحب اصلا اذى، لانك لاتتناولينه بجرعات محدودة.  تكثرين من الحبيب وتدمنينه فتتأذي به وتؤذيه لفرط حاجتك الدائمة والمتزايدة إليه ثم تتمردين عليه وتهجرينه فتمرضين به وتتسببين في مرضه وفي هذه الحالة فقط أغفر، عندما من يؤذيك حباً يفوقك عذابك به

يالله كم الفرح أناني وكم الحب لامبال! حين يجئ الحب بسعادته الخرافية تلك، تنسى الاخت اختها والصديقة صديقتها ويتنكر الاب لاولاده والاولاد لأمهم

Share

« Older Entries