الكلام أرخص أنواع المعرفة
هذا ما يقوله ثيدور زيلدن الذي أحتفل قبل أيام قليلة بعيد ميلاده الرابع والسبعون والذي دعا اليه جميع من يرغب بالحضور شريطة ان يتبادل المدعو اطراف الحديث مع شخص غريب لم يقابله قط. طبقاً لنظرية زيلدن فان مفهوم الصداقة قد تغير عبر العصور لذلك فأن أمثال ومقولات مثل مرآة المرء صديقه والطيور على اشكالها تقع لم تعد سارية المفعول اذا ما أردنا ان نحصل على المعرفة الحقة.
ذكرني ذلك بأيام الدراسة حينما كانت الطالبات المتفوقات يحرصن على أختيار صديقاتهن بعناية لأن المتفوقة قد تستفيد من صديقتها المتفوقة دراسيا اما الكسولة فقد يكون لها تأثير سلبي على مستواها الدراسي، ثم هناك ضغط اولياء الامور الذين يميلون لتأييد هذا التوجه خوفاً من تراجع تحصيل ابنائهم الدراسي أو التأثير سلباً على الاسلوب التربوي الذي نشأوا عليه. والنتيجة ان الكثير من هؤلاء الطلبة يتفوقون دراسيا ويتخرجون من المدارس والجامعات بأعلى الدرجات ولكن حينما تبدأ مرحلة الحياة العملية بعد التخرج أو حين اتخاذ قرار الارتباط يفشلون فشلا ذريعا بسبب عدم احتكاكهم بأنماط بشرية تختلف عن تلك التي عرفوها واعتادوا عليها.
ربما تغير الوضع قليلاً في وقتنا الحالي بسبب انتشار وسائل العولمة من أنترنت وفضائيات ولكن نظرية الاقران والنظراء لازالت موجودة الى حد ما. فالمثقفون يحرصون على مخالطة أقرانهم من المثقفين، والموهوبون في مجال ما يميلون لمصادقة من توجد لديهم أهتمامات مماثلة، وبالتالي فأننا لا نتعلم ولا نطلع على الجانب الآخر من العالم الذي نحصر أنفسنا في جزء صغير منه.
شعرت بذلك بعد ان فكرت بتجربتي مع صديقتي المولعة برياضة ركوب الخيل والتي تلحّ على منذ أكثر من عام لمرافقتها لاسطبل الخيول وزيارة متجرها الصغير لبيع كل ما يخص هذا الحيوان الرصين الذي تخلت لأجله عن مستقبلها المهني ووظيفتها المرموقة الا أنني كنت في كل مرة أسّوف لعدم أهتمامي بهذه الرياضة. في الوقت ذاته لم يكن لدي صديقتي الاهتمام والرغبه ذاتها لمرافقتي للندوات أو المعارض لأنها طبقاً لرأيها رتيبة ومملة. ثم جاء اليوم الذي أتفقنا فيه على تبادل الادوار وعلى دخول كلا منا الى عالم الأخرى والنتيجة كانت ممتعة بالفعل فقد شعرت بشئ من التغيير وروح المغامرة ، ورغم أن أهتمامي لم ينمو بعد لحد الرغبة في تعلم ركوب الخيل الا أنني أصبحت مهتمة نوعا ما بمعرفة كل شئ يتعلق بعالم الخيول.
الجانب الآخر هو ما أسمعه بين الحين والآخر من أوصاف ونعوت من بعض الاشخاص لغيرهم على شاكلة .. فلان سطحي أو تافه أو غير متزن أو غير متعلم أو مثقف، مثل هذه الاحكام التي يصدرها البعض على الآخرين تفتقر الى الموضوعية، فالعلم والثقافة غير مرتبطين بالشهادات والا لما وجدنا الكثير من اباءنا واجدادنا على درجة كبيرة من الذكاء والفطنة رغم تواضع مستواهم الدراسي.
اما بالنسبة للسطحية وعدم الاتزان فالموضوع نسبي وقد ينطبق علينا جميعا دون استثناء في حالات ومواقف معينة اذ لايوجد من هو مطلع وملم بكل شئ في الحياة .. لا السياسة ولا الدين ولا المعلومات العامة مقياس لأن نطلق على انسان بأنه ذكي أو غبي، سطحي أو غير سطحي، هناك أوقات نحب ان نسمع فيها فيروز وهناك أوقات قد نطرب فيها لأغنية سخيفة .. هناك أوقات نقرأ فيها كتاب فلسفيا جادا وهناك أوقات نقرأ كتاب للتسلية البحتة ونستطيع ان نقيس على ذلك الكثير من الاشياء. في رأيى الخاص ان من يحاول ادعاء سعة الاطلاع والجدية ويرفض الاختلاط بمن يظن بأنهم ادنى منه هو من يفتقد فعلا الى الاتزان والثقة بالنفس.
هل صحيح ان الطيور على اشكالها تقع وان مرآة المرء صديقه؟ لا أعتقد ذلك على الاقل بالنسبة لتجربتي الشخصية ، فبعض صديقاتي يكبرنني بعشر سنوات وبعضهن يصغرنني بعشر، شخصياتهن لا تشبه شخصيتي وميولهن لا تتطابق مع ميولي ، حينما أكون بصحبة بعضهن يكون الحديث جاداً وربما مفيداً وحينما أكون مع بعضهن الآخر فان الحوار لا يعدو سوى سرد لبعض الاحداث التي تدور في مجال الاسرة والعمل أو تضييع للوقت في الضحك والسخرية.
لايهمني فعلا توجهاتهن في الحياة ولا ما يطلقه الناس عليهن أو عليّ، ما يهمني هو التواصل الانساني الذي يربط بيني وبينهن بطريقة ما حتى وان أختلفنا من ناحية الجوهر والمضمون. جميع الشخصيات التي أعترضت حياتي مهما بلغت سطحيتها أو ثقافتها وجدت فيها شيئا ما ساعدني على ان استدل طريقي في الحياة، الاستماع الى الآخرين والى تجاربهم قد يضاهي عيشنا لهذه التجارب دون ان نكون طرفاً فيها بالفعل، لذلك أتفق تماما مع زيلدن بان الكلام أرخص انواع المعرفة.