ماذا نعرف عن تاريخ البحرين؟
دار في رأسي هذا السؤال مرات عديدة خاصة بعد ان تصفحت هذا الكتاب. معظمنا يحفظ عن ظهر قلب اسماء البحرين القديمة .. ديلمون .. تايلوس .. ارادوس، أعتقد بأننا مازلنا نتذكر شيئا مما درسناه في مادة التاريخ ولكن ماذا نعرف أكثر من ذلك؟
ألحّ السؤال بشكل أكبر حينما ربطت بينه وبين تدوينة لمحمود اليوسف .. وتساءلت بيني وبين نفسي : هل نستطيع تسويق البحرين واجتذاب السياحة والاستثمارات دون ان نرتكز على جذور؟ ربما .. فقد سبقتنا الى ذلك مدينة دبي ولكن أين هو طابعنا من كل ذلك وهل سنترك الايام لتطويه كما طوت ما تبقى من تراث وتاريخ البحرين؟ الحداثة والعصرية أمتدت الى كل شئ في وقتنا هذا حتى تلاشت هويتنا مع الايام. حضارة عريقة هي حضارة ديلمون فأين هي الآن من كل شئ حولنا .. فن العمارة .. الثقافة .. وسائل الاعلام .. لم يعد هناك ملمح لها سوى جدران وصخور لآثار متهالكة تقاوم الزمن وما تبقى من تاريخ كان في يوم من الايام
الاختام الدلمونية .. كتاب عرفنّي على جزء بسيط جدا من تاريخ البحرين ، في الفصل الأخير منه أفرد الباحث هاريت كروفورد صفحات لاستعراض الاختام الدلمونية التي تم العثور عليها في منطقة سار والتي بلغ عددها الخمسة وتسعون. رسوم بسيطة ورائعة في الوقت ذاته ألهمتني بالكثير من الافكار التي يمكن لها لو نفذت ان تنشر شيئا من تاريخ وحضارة البحرين.
أطلقت العنان لخيالي فرأيت صورة أحد هذه الاختام قد تم تكبيرها وتنفيذها كخلفية لمنضدة الاستقبال في أحد المؤسسات الحكومية.. ثم تذكرت القاعة المصرية في سلسلة متاجر هارودز في بريطانيا حيث تزين رسوم الفراعنة أسقف وجدران القاعة فتخيلت مجمعا تجاريا في البحرين تزين اسواره وممراته الاختام الدلمونية .. وفي المساء تخيلت نفسي أشاهد برنامجا مصورا عن ملحمة جلجامش يبث على تلفزيون البحرين بقناتيه العربية والانجليزية وحينما يحل العيد الوطني تزدان شوارع البحرين بصور الماضي ومثل مهرجانات البرازيل تخيلت مهرجانات تدخل فيها التصاميم المختلفة للملابس والأزياء البحرينية القديمة في العرض بينما توزع خلالها الهدايا التذكارية التي تجسد تاريخ وحضارة البحرين على السياح والمقيمين
أسرفت في خيالي واسترسلت كثيرا حتى نسيت شكل ناطحات السحاب بواجهاتها الزجاجية التي بدأت تغزو البحرين .. واجهات بيوتنا التي يمكن ان نطلق عليها من كل بحر قطرة .. تراثنا الضائع .. برامجنا ومسلسلاتنا التلفزيونية البائسة .. سياحتنا الميتة وتمنيت ان ان أستفيق من خيالي فأجد مكانا لديلمون الماضي في بحرين الحاضر.. فهل يمكن للخيال ان يتحقق يوما ما؟
قبل خمسة شهور تقريبا دار هذا الحوار بيني وبين أحد زملائي في العمل بعد أن شهدت العديد من الدوائر استقالات جماعية ومتتالية معظمهم لبحرينيين عمل بعضهم لأكثر من عشر أو خمسة عشرة عاما في المؤسسة التي أعمل بها. البعض أنتقل للعمل في مؤسسات أخرى داخل البحرين والبعض الآخر قرر الهجرة الى بعض الدول الاوروبية أو الى دول خليجية مجاورة
أنا: ما الذي يجري في البحرين، أصبح الجميع على أهبة الاستعداد للهجرة الى اي مكان في هذا العالم، لم يكن الوضع هكذا قبل سنوات
زميلي: الطفرة الحالية في عدد المؤسسات التي دخلت منطقة الخليج خلقت فرص عمل جديدة وعروض مغرية للبعض
أنا: هذه الفرص كانت متوفرة ايضا في السابق ولكن لم يكن اي بحريني ليفكر في الهجرة مهما كان العرض مغريا، الا تتفق معي ان هناك حالة احباط عامة تسود معظم المؤسسات الخاصة والحكومية بسبب عدم تكافؤ الفرص والمحسوبيات التي تقدم البعض على الآخر لاعتبارات تتدخل فيها الامور الشخصية أكثر من المهنية وبأن الخبرة والمؤهل والكفاءة لم يعودوا المقياس الاساسي هذه الايام للحصول على وظيفة أو الترقي في العمل كما يفترض ان يكون
زميلي: ربما ولكن أعتقد بأن الغلاء وازدياد عدد الخريجين ومعدل البطالة المتنامي أحد الاسباب الرئيسية لهجرة البحرينيين الى الخارج
مرت بضعة شهور كنت أتابع خلالها اعلانات الوظائف في جرائدنا المحلية وبدأت ألحظ كما لاحظ غيري ازدياد عدد الاعلانات التي تطلب موظفين بحرينيين للعمل في دول خليجية الى ان رن جرس الهاتف في مكتبي ذات يوم، كان زميلي على الطرف الآخر: هل قرأتي عدد اليوم من جريدة …. ؟ أجبت: نعم، لماذا؟
هو: هناك أعلان للعمل في الدوحة، أكثر من خمسين وظيفة شاغرة لمؤسسة مصرفية جديدة، سأرسل سيرتي الذاتية لهم. ما رأيك؟ هناك وظيفة في نفس مجال تخصصك لماذا لا تفكرين في الأمر؟
أجبت مازحة: أنا؟؟ لا يمكن. مثلي كالسمكة قد أموت لو أُخرجت من البحر. لا أنكر أنني أفكر في الهجرة مثلي مثل غيري بين الحين والآخر ولكن لا أعتقد أنني سأقوى على الاغتراب ثم أخذنا الحديث عن أثر تجربة الاغتراب والعمل في بلد مختلف وما الى غير ذلك من الامور، بدا زميلي الذي يشغل منصبا أدارياً لا بأس به متحمساً للفكرة مبدياً استعداده للانتقال مع اسرته الصغيرة دون ادني تردد أو تفكير في حال لو حصل على عرض أفضل في بلد آخر وأنتهى الحوار على أنني لن أخسر شيئاً لو أرسلت سيرتي الذاتية على سبيل التجربة ولأنني لم أكن أحتفظ بالصحيفة حينها طلبت من زميلي ان يرسل لي عنوان البريد الالكتروني كرسالة نصية على الهاتف، بعد فترة قصيرة وصلني العنوان الالكتروني مع عبارة سي يو ان دوحة. أرتسمت ابتسامة كبيرة على وجهي يومها وانا اقرأ عبارته تلك واذكر انني وقتها ارسلت له رسالة نصية أخرى كتبت فيها الم يكن ذلك عنوان الحملة الاعلانية للألعاب الاولمبية الاسيوية التي أقيمت في قطر؟
مر على هذا الحديث أكثر من خمسة اشهر الى ان فوجئت قبل عدة ايام بمكالمة من رقم هاتفي غير مألوف بالنسبة لي وحينما أجبت أكتشفت ان الرقم الغريب هو لديفيد أحد اعضاء الادارة التنفيذية الجديدة في المصرف القطري التي أرسلت له سيرتي الذاتية والذي يتواجد حاليا في البحرين لأجراء مقابلات التوظيف. في اليوم التالي قابلت ديفيد الذي أخبرني ان المصرف تلقى أكثر من خمسة الآف طلب بعد نشر الاعلان في قطر والبحرين، عقدت حاجبي وانا اتسائل بيني وبين نفسي ترى كم عدد البحرينيين المتقدمين لهذه الوظائف من ضمن الخمسة الآف
حتى هذه اللحظة لم أفكر في جدوى هذه المقابلة وما اذا كنت سأستمر في الانسياق للفكرة التي بدأت بمجرد مزحة بيني وبين زميلي لكنني فكرت في عدد الكفاءات التي غادرت ومازالت ستغادر هذه الارض .. في عدم التقدير والتقزيم والتهميش الذي يمارسه بعض المسئولين على موظفيهم البحرينيين الذين يحظون للاسف بالتقدير من الغريب والبعيد في الوقت الذي تلفظهم فيه بلدهم بدلا من احتضانهم. في موجة التجنيس التي ستأتي على الأخضر واليابس .. في معدل النمو الاقتصادي لدول الخليج العربي التي سجلت البحرين أدني مستوى فيه .. في التضخم والغلاء وارتفاع اسعار العقارات التي ستساهم بدون شك في طرد المزيد من الكفاءات البحرينية الى الخارج لتحسين مستواهم المعيشي
ما هو مصير هذا البلد بعد عشر أو عشرون عاما من الآن؟ سؤال أعتقد اننا لا نمتلك أجابة له