حكايات من القاهرة – 1

Posted on May 10, 2008 by Suad

يقول المصريون (اللي يشرب من مية النيل لازم يرجع لها تاني)، وهكذا وبعد مرور أكثر من عشرة أعوام وجدت نفسي مجددا وبترتيب غريب من القدر أتوه في زحام القاهرة وأغرق في تفاصيلها الصغيرة المفعمة بالحياة.  في القاهرة تستطيع ان تعرف حكايات المارة من عيونهم .. من ما تحمله أكتافهم، وان تستشف همومهم من التجاعيد الغائرة التي تركها الزمن على وجه عم أبراهيم والحزن الذي يكسو أجفان نساء وأطفال يسكنون الشوارع ويسكنهم قلق لقمة العيش.

 

في هذه المدينة العتيدة وبين أزقة خان الخليلي وشارع طلعت حرب قضيت معظم الوقت أتجول بحثا عن قصص لا تشبهني، وفي مكتبة عرابي وجدت تاريخ وحكايات شوارع القاهرة مسطورا في صفحات كتاب أسمه القاهرة شوارع وحكايات للمؤلف حمدي أبو جليل والذي يؤرخ بشكل رائع من خلال قصص اسماء شوارع القاهرة المراحل التاريخية الأولى للقاهرة الفاطمية والخديوية ومصر القديمة. الآف من الكتب المتنوعة في الادب والسياسة وعلم الاجتماع، وعناوين قد لا تجدها في مكتبات ودور النشر الأخرى كمكتبة دار الشروق أو مكتبة مدبولي التي تحفل بآخر وأحدث الاصدارات من المؤلفات العربية والاجنبية وترجمات الادب العالمي.  وعلى الرغم من غزو فيرجن ميغاستور للقاهرة والذي يتربع حاليا على قمة محلات الموسيقى والكتب في جميع انحاء العالم الا ان هذه المكتبات لا زالت تتفرد بنوعية كتبها ومرتاديها.

 

تاكسي .. حواديت المشاوير

 

والعنوان اعلاه عنوان كتاب آخر للإعلامي خالد الخميسى الذي صدر منه حتى الآن الطبعة العاشرة والذي وصفه الدكتور جلال أمين بحالة المجتمع المصري اليوم كما تراها شريحة اجتماعية مهمة وذكية هي سائقو التاكسيات في مصر ورصد دقيق لأحوال المجتمع وللرأي العام المصري.  أستمتعت كثيرا بقراءة هذا الكتاب اثناء اقامتي في القاهرة والذي كنت أختتم به يومي كل مساء بعد جولات حافلة لكل ما تزخر به مدينة القاهرة من معالم واماكن تاريخية لا يمل السائح ولا المقيم منها حتى وان زارها عشرات المرات.

 

لست أدرى إن كان الكاتب الخميسي بصدد أضافة كتاب جديد لكتابه هذا ليكون ذلك امتداد لسلسة من حواديت وقصص التاكسي ولن أندهش ان فعل ذلك فقصص التاكسي والتركيبات المتباينة والمذهلة لسواق التاكسي في مصر تجعل من مشاوير التاكسي تجربة تستمتع بتكرارها كل مرة بينما تترقب في شغف الحكايات التي ستكون بإنتظارك مع سائق جديد وزاوية جديدة من هذا العالم الكبير الذي يشبه صندوق الدنيا في كل مرة تطأ فيها قدماك سيارة أجرة.

 

أول رحلة لي مع قصص التاكسي كانت بصحبة زميلي في الرحلة وورشة العمل حسين المحروس وحسين لمن لا يعرفه كاتب بحريني متميز ومصور فوتوغرافي رائع أستفدت كثيرا من تجاربه وخبراته في التصوير وتمكنت بفضله من التقاط العديد من الصور الجميلة وبزوايا مختلفة لم أكن أعرف عنها شيئا من قبل نظرا لخبرتي المتواضعة بفن التصوير الفوتوغرافي.  وفي كل مرة كنا نخرج فيها معا لاستكشاف القاهرة كنا نعود الى الفندق محملين بالصور وبالعديد من القصص الانسانية والذكريات الطريفة.

 

في أول مشوار لنا مع سائقي التاكسي كان سائق من صعيد مصر أقلنا من المطار الى فندق سوفتيل القاهرة في الهرم.  شكا السائق وبأسهاب من هيمنة المرأة ونفوذها في المجتمع المصري وقانون الاحوال الشخصية الذي يقف على حد قوله الى جانب المرأة أكثر من الرجل وبأن الرجل المصري فقد هيبته وسلطته بعد ان كان الربان الذي يقود ويترأس القرارات في أسرته.  السائق الناقم على المرأة عانى من تجربة فاشلة مع زوجته الأولى أفضت الى الانفصال ونزاعات وصلت إلى أروقة المحاكم وأنتهت بحكم ألزمه بدفع نفقة شهرية يعتبرها مرتفعة لطليقته واولاده منها.  حاولت عبثا ان افهمه بأن المرأة انسان مثلها مثل الرجل ولها من الحقوق ما هضمته المجتمعات العربية لردح طويل من الزمن وبأنه قد آن الاوان ان نحمى الأسر العربية من كل ما يلحق بها من امراض نفسية وانقسامات وتشرد للابناء أثناء وبعد حالات الطلاق فقال لي بلهجة صارمة أنهي بها الحوار: “خلاص .. مش عاوز أتكلم في الموضوع .. أنا من الصعيد ويكفي أن تعرفي ذلك!”.

 

 

عنصر مفاجئ

 

على النقيض تماما وفي الايام الأخيرة من الرحلة أستوقفنا سائق تاكسي آخر .. هذه المرة لم يكن التاكسي الابيض والاسود وهو التاكسي السائد في مصر والذي تحتسب فيه الأجرة بشكل تقديرى وبالتفاوض مع السائق بل التاكسي ذو اللون الاصفر أو كما يطلق عليه تاكسي العاصمة.  معظم موديلات سيارات التاكسي الصفراء حديثة وفي حالة جيدة والاهم انها مكيفة وهذا أهم ما تفتقر اليه سيارات التاكسي العادية كما انها تعمل بالعداد لذلك فأن تكلفتها أرخص نسبيا للمسافات الطويلة مقارنة بالتاكسي الآخر الذي أكتشفنا فيما بعد اننا كنا ندفع له اضعاف الاجرة التي يستحقها. وبما ان الفندق الذي كنا نقيم فيه كان يبعد كثيرا عن وسط البلد فقد كان هذا النوع من سيارات الأجرة هو النوع الأمثل لتنقلاتنا اليومية الا انه كان يندر ان نجد واحدا في شوارع القاهرة فهناك ارقام خاصة للاتصال بتاكسي العاصمة كما ان وصول السائق قد يستغرق بعض الوقت في أوقات الذروة والازدحام.

 

المهم ان سائق التاكسي هذه المرة كان يتمتع بقدر كبير من الفكاهة وروح النكتة جعلنا ننفجر ضاحكين طيلة المشوار من وسط البلد الي فندق السوفتيل.  ويبدو ان الغلاء والمرأة هما الشغل الشاغل لسائقي التاكسي في مصر هذه الايام فما ان تحرك سائق التاكسي أمتار قليلة حتى بدأ يسرد علينا قصص ومفارقات زيجاته الثلاث.  السائق الشاب الذي أطلق على نفسه أسم “أبو رحمة” لم يكن رحيما على الاطلاق خصوصا مع النساء فبعد فترة بسيطة من زواجه الأول بفتاة من بلده طلقها لأنه على حد قوله كان زواج تقليدي وفي سن صغيرة وبأن العروس لم تحسن التعامل معه أضافة الى ضعف ثقتها بنفسها وخجلها المفرط الذي أنقلب الى عنف بعد فترة قليلة من الزواج فكانت ترد له الصاع بصاعين متبعة مبدأ العين بالعين، فالاشياء التي كانت تتطاير اثناء المشاحنات بين الزوجين من قطع الاثاث المنزلي وغيرها كانت متكافئة من الجهتين لذلك شعر أبو رحمة بشئ من الضجر ازاء ردود الافعال المتوقعة على حد قوله فطلقها.

 

ثم تزوج بعدها من امرأة عربية كانت تقيم في القاهرة “لاسباب ديبلوماسية” و”تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين” على حد قوله فسألناه عن اي نوع من العلاقات الديبلوماسية يتحدث فقال ان زيجته كانت من قبيل الشهامة فإقامة المرأة في مصر كانت ستنتهي بعد شهر ولكي تتمكن من تمديد اقامتها لعام آخر كانت تحتاج ان تتزوج من فرقة انقاذ مثل ابو رحمة.

 

وما جعلنا ننفجر فعلا من الضحك هو الاسم أو المصطلح الذي أطلقه ابو رحمة على الزوجة الجديدة وهو “عنصر مفاجئ”، فجميع الستات في نظر ابو رحمة عنصر مفاجئ وزوجته الجديدة كانت من هذا النوع وهو مصدر اعجابه بها اذ لم يكن يدرك ماذا ينتظره بعد كل “خناقة زوجية”.  أحيانا كانت الزوجه تتركه وتمضي لحال سبيلها واحيانا أخرى كانت تباغته بتصرف غير متوقع ومع ذلك فأن العنصر المفاجئ لم يدم طويلا فالزواج الذي بدأ بمصلحة خفت بريقه بعد فترة ليتزوج ابو رحمة من جديد من امرأة من بلد عربي آخر.

 

أثناء المشوار كان هاتف ابو رحمة لا ينقطع عن الرنين فزبائنه الذين يبحثون عن جلسات المساج في فنادق الخمس نجوم كُثر وابو رحمة نصّب من نفسه مرشدا سياحيا لمن يرغب.   ولست أدرى لماذا أفترض انني وزميلي حسين زوجين فبدأ في مشاكستي كي أطلق سراح (الزوج المغلوب على أمره) وان (لا اقصقص ريشه) كما تفعل معظم الزوجات (المفتريات). أعجبتنا اللعبة فسايرناه حتى النهاية.  طرح اسم بلد عربي شقيق توقع اننا منه فأومأنا بالايجاب ثم سأل من اي منطقة من …. نحن؟ فحضرني أسم مدينة أعرفها من ذلك البلد فقلته له فأجاب بتنهيدة طويلة “ياااااااااااه .. ده أنتي زكرتيني باللذي مضي” سألناه ان كان قد زار هذه المنطقة من قبل فأجاب بالنفي لننفجر مجددا من الضحك.

 

وصلنا إلى مدخل الفندق ويبدو ان الحيلة قد انطلت على ابو رحمة كما ظن هو بأن حكاياته عن العلاقات الديبلوماسية والشهامة قد أنطلت علينا.  وقبل ان نودعه طلب ابو رحمة “الكرت” من زميلي حسين فاعطاه اياه.  اثناء سيرنا الى الفندق كنا نتسائل عن ردة فعل ابو رحمة بعد ان يقرأ ما هو مسجل على البطاقة من بيانات حسين الشخصية، أسم البلد والوظيفة واشياء أخرى قد تغير من نظرته للأبد بأن نظرية العنصر المفاجئ لا تقتصر على النساء فقط!

Share

Comments

  • ملاذ on May 10th, 2008

    الحمد لله ع السلامة شقيقة،

    يبدو إن رحلتك كانت ممتعة و غنية بتفاصيل جميلة،

    سائق التاكسي برنامج الصراحة، ،عطاكم سيرة حياته (على مسافة السكة)..

    و هذا غالبا ما يحدث مع سواق التاكسي، ثرثرتهم تكشف عن أسرار و جوانب للبلد ، ببساطتهم هم لا يدركون إنهم واجهة للبلد ، لا تحكمهم رسميات يفرغون همومهم و يحكون فقط..

    كوني بخير

    ملاذ

  • Butterfly on May 10th, 2008

    ملاذ

    الله يسلمك، افتقدت البحرين والمدونة كما افتقدتك وافتقدت وجودي بينكم.

    بالنسبة لسواق التاكسي في مصر فأعتقد بأن الثرثرة في وضعهم مفيد جدا ان لم يكن مطلوبا! فحينما لا يمتلك المواطن البسيط الحيلة لتغيير الكثير من الامور التي ترهقه تصبح الفضفضة هي الطريقة الوحيدة للتنفيس.

    لا ابالغ ان قلت بأن سائق التاكسي في القاهرة معرض للكثير من الامراض والضغوطات النفسية والجسدية فالازدحام والاختناقات المرورية وصل أوجه والتوتر يتعدى السائق ليصل الى الراكب الذي يكون على اعصابه حتى يصل الى وجهته. ولولا هذه الثرثرة التي تشغل الطرفين عن التركيز في الازدحام لشعر كلاهما يالاختناق.

    الازدحام في مصر جعلني أفكر لبعض الوقت في تذمرنا اليومي من الازدحام في البحرين الذي لا يصل الى 10% من الازدحام في مصر.

  • bala-wala-shi on May 14th, 2008

    شكرا على هذا البوست الظريف و المفيد في الوقت نفسه. لقد جعلني ابتسم طوال قرأتي له… مشكورة على ذلك يا فراشة 🙂

Leave a Reply

Name

Email

Website

*